فَتَح شخص ما عينيه بجفنٍ ثقيل مستيقظا من النوم.
كان ينام على بطنه مستلقيا على وسادة اسفنجية نحيلة.
تعابيرُ وجهه تدلُّ على أنه لا يزالُ منهك وأن الاستيقاظ لم يكن له خياره الأول, لو كانَ له خيارٌ في الموضوع.
لم يفتح عينيه بشكل كامل, كان ذلك ردّة فعل لا إرادية على قوة أشعة الضوء في مُحيطه واتساع بؤبؤي عينيه واستيقاظه للتو.
الجوُّ شديدُ البُرودة.
نظر إلى السماء فوقه. كانت صافية باستثناء بضعة سحب بعيدة. كانتِ الشمسُ مائلة عن وسط السماء. خمّن أن الوقتَ كان صباحا لبياض أشعة الشمس ونصعها.
ميّز أنّه كانَ ينامُ في الهواء الطلق.
سأل نفسه "أينَ أنا؟ .. وماذا أفعلُ هنا؟"
انقلبَ على ظهره. اعتدلَ جالسا ببطء مُحاولا مُجاهدة الإنهاك.
الرِياحُ قويّة بعض الشيء.
لم يَكُن يرتدي إلّا سِروالا داخليا قصيرا أزرق اللون كَزُرقة مَلابس طبيب متدرب وحذاء مشي رياضي يتناسقُ لونه مع بقيّة ملابسه.
يبدُو مُتَّسِقَ القوامِ في أواخر العشرينات من عمره.
عقدَ ساعديه أمامه مُحاولا تدفئة نفسه وهو ينظر حوله.
كانت الوسادة الاسفنجية التي ينامُ عليها تتوسط أرضية مربعة الأبعاد مرتفعة عن سطح الأرض.
يبدو أن الأرضية مصنوعة من من سياج حديدي كالذي يُستخدم في سلالم الطوارئ.
قدّر أبعاد الأرضية بعشرين مترا في عشرين مترا.
وقف قائما.
خطا خارج مُحيط الوسادة التي كان ينام عليها.
نظرَ إلى الأسفل.
أصابه الهلع بعض الشيء. لم يكن مستعدا لرؤية ذلك.
كان على قمة بناية تتكون من عدة طوابق وقد صُنعت أرضية الطوابق من سياج حديدي كالذي يقف عليه.
يستطيع رؤية الطابق الذي أسفله بصعوبة ولكن تتعذر رؤية بقية الطوابق.
قرّر أنه سيتفادى النظر للأسفل مُباشرة وأنه سيُركزُ على السياج الحديدي نفسه.
شعر بالتوتّر بعض الشيء إثر وجوده على هذا الارتفاع لسبب مُبهَم في هذه الظروف الغامضة.
مشى في إحدى الاتجاهات نحو أحد أطراف البناية لكي يرَ ما أسفلها.
لم يكن هُناك أيةُ أصوات إلا صوت خُطواته المنتظمة على السياج الحديدي وصوت الرياح الباردة.
قلل من سُرعته حذرا من السقوط عند اقترابه من الحافة لعلمه أنّ ارتفاع البنيان الذي يقف عليه غالبا ما يزيدُ على ثلاثة طوابق.
بدأ يرى الأفق عند اقترابه من الحافة. يبدو أن الثلج الأبيض يُغطي التلال المُحيطة به بُعد نظره مما زادَ من رهبة موقفه.
انعقد حاجبيه مُزيدا رغم انعقادها أساسا.
أخذ توتره يزداد باقترابه من الحافّة وتمييزة أن البناية عالية جدّا.
توقف على بُعد متر ونصف من الحافّة.
تسارعت أنفاسه لهول موقفه وعدم علمه ما سيفعل أو مالمُفترض أن يفعل.
قدّر ارتفاع البناء بين التسعين والمئة متر.
تَراجع خائفا بعيدا عن الحافة وسقط على مؤخرته التي آلمته إثرا اصطدامها بالسياج الحديدي.
جلس على الأرضِ وأخذَ يُفكِّر.
كيف وصل إلى هنا؟ إن كان لا يتذكر فهل معنى ذلك أنَّ أحدا وضعه هنا؟ لمَ لا يتذكر أينَ كان قبل استيقاظه؟ أين ملابسه؟ لمَ وُضع على قمة هذا البناء الغريب؟
رجّح بعدَ طرحه أسئلته وعدم وجود إجابات أن تفكيره لن يُفيد والأولى به محاولته التصرف للهروب من هذا الموقف.
اعتدل قائما. ارتفع صوت الرياح وقوتها فعقد ساعديه أمامه مُجددا مُحاولا إبقاء درجة حرارة جسده عالية.
مشى بمحاذاة الحافّة على بُعد متر من الطرف باتجاه عقارب الساعة.
الثلجُ في كل مكان.
مشى بمحاذاة طرفين من أطراف البناية ولم يرَ مُعطيا جديدا وعند مشيه بمحاذاة الطرف الثالث رأى شارعا اسفلتيا ضيقا بالكاد يتسع لسيارتين ولا تغطيه الثلوج.
المكانُ مأهولٌ إذن!
مشى حتى اقترب من الزاوية التي تربط بين الطرفين الثالث والرابع.
رأى سيّارة دفع رُباعي مركونة أسفل البناية. باب السائق مفتوح ويبدو أنّ مُحركها مُدار. استنتجَ ذلك نظرا لخروج دخان كثيف من عادم السيارة. يبدو كأن السيارة تدعوه لقيادتها. هل هو فخ؟ أم هل هو الطريق لنجاته؟ هل كانت ما أحضره هنا؟
لم يكن لديه الكثير من الخيارات. لا بُدّ أن يَجِدَ طريقة للنزول والوصول للسيارة والخروج من هذا المكان فالبقاء هُنا موتٌ مُحَتَّم.
ضخّت الدماء في عروقه إثر وجود خطة وحافز للخروج من هنا ففرد ذراعيه سادلا إياهما على جانبيه وقام بتفحص الطرف الرابع من أرضية أعلى طوابق هذه البناية التي يعتليها لسبب مُعيّن.
هل هناك سبب مُعين على أيّة حال؟ هل من المفترض أن يكون هناك سبب؟ هل يحق له المطالبة بسبب؟ من أعطاه ذلك الحق؟
كلُّ هذا لا يهم الآن.
وجد سلما حديديا في منتصف الطرف الرابع يربط هذا الدور بالدور الذي أسفله ويتوقفُ هناك.
يبلغ طول السلم قرابة الثلاثة أمتار ونصف تقريبا.
قدّر أنها مُجازفة خطيرة أن يحاول النزول مع هذا السُّلم الذي لم يُراعي واضعه أية ضوابط سلامة.
هل يجدُر به النزول؟
قرّر أنه سينتظر بضعة دقائق فربُّما مرت سيارة على الطريق السريع واستطاع لفت انتباهها بطريقة أو بأخرى.
وقف في مكانه لدقيقتين.
لم تمر أية سيارات.
سرت رعشة في عموده الفقري من البرد الشديد وقرر أنه سيمشي على الطرف المُقابل للخط السريع لكي يرفع من درجة حرارة أطرافه بينما يتنظر.
مرت ثلاثة دقائق وهو على تلك الحال.
لم تمر أية سيارات.
يبدو أن النزول مع السلم هو خياره الوحيد.
تنهد وجمع أعصابه آخذا نفسا عميقا وخطى باتجاه السُّلم.
عندما اقترب من السلم ورأى الارتفاع ازدادت حدة نبضات قلبه.
لم يكن لديه خوف من الارتفاعات فوق المعدّل الفطري ولكن ما كان بصدد الإقدام عليه قادر على ضخ الرهبة في أقوى القلوب, وأضف على ذلك, فليس ثمة شيء يحميه لو تعثر وسقط.
غيَّر من وجهته ماشيا للخلف لينزل على السلم مُقابلا إيَّاه ولكي لا يضطر لرؤية الارتفاع.
ببطء وحذر شديدين انحنى ووضع يده على الأرض غارزا أصابعه في السياج الحديدي.
أحسّ بالبرد الشديد من لمس يديه للحديد العالي القابلية لتوصيل الحرارة.
وضع قدمه على أولى خطوات السلم.
حرّك قدمه الأخرى ووضعها على الخطوة التي تليها.
قام بالنزول ببطء ووضع يده على أولى خطوات السلم ثم التي تليها وقام بفعل ذلك عدة مرات.
وصل لمنتصف السُّلم.
بلغ التوترُ منه مبلغه.
تسائل في قرارة نفسه إن كان مقدار توتره مُبررا.
استرقَ نظرة للأسفل ولم يتحمل وقعَ المشهد فسقط قلبه لأسفل أحشائه وتسارعت أنفاسه.
هبت رياحٌ قوية فجأة فاختل توازنه وتركت يده اليسار ورجليه السلم ولكن قبضة يده اليمنى ازدادت قوة وبقي مُتعلقا لثانيتين لا يقفُ بينه وبين السقوط من هذا الارتفاع سوى قوة أصابع يده اليمين.
ضخت مادة الأدرينالين في عروقه ودفعته غريزة البقاء لإمساك السلم مرة أخرى واستعادة توازنه فأعاد يده اليسار لتقبض بالسلم بقوة وأعاد رجليه على السلم رغم استمرار هبوب الرياح القوية.
نزل بقية الخطوات ووضع قدميه واحدة بعد الأخرى على أرضية الدور قبل الأخير ملتفا حول السلم.
عندما وقف مُجددا على قدميه أطلق سيلا من الشتائم واللعنات بصوت جهوري مُحتقن ولكنه لم يعلم من يوجّه ذلك السيل عليه.
تبددت صرخاته في الهواء.
انحنى راكعا يلهث وغدا يفعل ذلك لدقيقة حتى هدأ قليلا.
يحتاج لأن يستمر بمواجهة الأمر الواقع.
رفع رأسه وقام بالنظر لهذا الدور من تلك البناية.
توجد أعمدة في الأركان تقوم بتثبيت الدور الذي يعلوه.
خفت النور بعض الشيء نظرا لكون الدور الأخير سقفه الآن.
مشى بضعة خطوات باتجاه ذلك الطرف التي توجد عندها السيارة.
لا تزال السيارة موجودة وكل شيء على حاله.
ابتعد عن الحافة ومشى على أرضية الشبك الحديدي التي تشابه الدور الذي يعلوه.
تفقّد أرضية ذلك الدور.
توجد فتحتين في الأرض يفصل بينهما قرابة خمسة أمتار أبعادهما متر في متر يتناظران في مكانيهما حول مركز الأرضية في منتصف المسافة بين طرفين متقابلين.
لم توجد فتحتين؟
هل كليهما يؤديان لنفس المكان؟
نزل مع احدى الفتحتين للدور الذي يليه.
وجد صفيحة حديدية نحيلة تقسم الدور الذي نزل له إلى قسمين وتمنع رؤية القسم الآخر. الجهات الثلاث الأخرى مفتوحة على الهواء الطلق.
تمتد الصفيحة الحديدية خارج أطراف الأرضية قُرابة المتر لكي تمنعه من الوصول للقسم الآخر بسهولة.
يبدو أن السُلم الآخر يؤدي إلى القسم الآخر.
مالهدف من وجود قسمين؟
قام بتفقد أرضية الدور وأطرافه.
لا توجد فتحات ولا سلالم على الأطراف.
غالبا ما كانت السلالم موجودة في القسم الآخر.
عاود الصعود للدور قبل الأخير ونزل مع السلم الآخر.
وجد أربع فتحات في القسم الآخر.
يوجد سلّمان في فتحتين ودرجان في الفتحتين الأخريين.
هل هذه متاهة؟
أيّة نكتة لعينة هذه؟
اشتدّ غضبه وركل الصفيحة الحديدية التي تفصل بين القسمين وهو يطلق صرخات غاضبة
آلمته قدُمه فصرخَ مُجددا وندم لركله الصفيحة.
قرّر أنه لن يفعل ذلك مرة أخرى. يجدر به الحفاظ على طاقته وصرفها على التركيز على الهروب من هنا.
أخذ بضعة أنفاس عميقة ثمّ قرر أنه سينزل مع الدرج لكي لا يضطر للمس السلالم الباردة 'اللعينة' كما وصفها في سرّه.
كان الطريق مسدودا.
نزل مع الدرج الآخر.
وجد أقساما أصغر تفصلها عن بعضها صفائح حديدة كالتي رآها من قبل. تخرج هذه الصفائح الحديدة خارج مساحة الأرضية جاعلة الالتفاف حولها مستحيلا.
كل الطرق التي أدت لها السلالم كانت مسدودة أيضا.
أخذ يُفكر.
لا بدّ من أن هناك طريقة للنزول.
رجع مع أول درج نزل معه.
قام بتفقد الأطراف.
يوجد سُلم على الطرف كالذي نزل معه أول مرة.
سبّ وشتم من لم يجعل أمامه خيارا غير النزول من هذا السلم.
نزل مع السلم بحذر شديد للدور الذي يسفله.
وجد دورا مفتوحا على بعضه كالدور قبل الأخير وتوجد فتحة تؤدي لدرج في منتصفه.
يبدو أنه يمشي بالاتجاه الصحيح.
نزل مع الدرج ووجد عدة فتحات وسلالم وأدراج وسلالم في الفتحات أو على السلالم المربوطة في الأطراف.
أخذ يحاول الوصول للأرض بأية وسيلة رُغم تسائله طيلة الوقت عن السبب الذي دعا أحدا لصنع مثل هذا البناء الذي لا يبدو أنه يخدم هدفا واضحا.
بعد نزوله للمزيد من الأدوار تعقدت عليه الأمور كثيرا.
في بعض الحالات كانت السلالم والأدراج تقوده للأسفل دورين أو ثلاثة قبل أن يتبين أن الطريق مسدود فيعود ويصعد ليقوم باختبار الخيارات الأخرى كطروق موصلة للأسفل.
وصل للدور الثالث عشر, عدّا من الأعلى, في منتصف البناء تقريبا.
تكاثرت عليه الخيارات أُسِّيا.
أحس بالتعب وقلّ حماسه إثر صعوبة موقفه فخف تدفق الدم إلى أطرافه وشعر بالبرد مُجددا.
لا بُد من أن يغير من استراتيجيته.
كان يجلس على طرف في زاوية الدور في قسم صغير معزول تبلغ مساحته قرابة ربعِ ربع مساحة من ذلك الدور.
كانت الشمس قد اختبئت خلف بضعة سحب خلال الخمس دقائق الماضية.
استند على الصفيحة الحديدة جالسا وثنى ركبتيه ووضع رأسه بين راحتيه مُفكرا.
نظر إلى الزاوية.
يوجد عمود حديدي يبلغ قطره قرابة العشرة سنتيمترات في الركن كالذي رآه في زاوية كل دور.
برقت عيناه واتسعتا فجأة وكأنما كان يقول "لقد وجدتها!"
قام من مكانه ومشى باتجاه العمود وأمسك به وقام بالنظر للدور الذي يليه.
ربما يستطيع الوصول للدور التالي عن طريق الامساك بهذا العمود والنزول ببطء وحذر شديدين.
غالبا ما وفّر عليه ذلك الكثير من الوقت.
ينبغي عليه المُقامرة بمحاولته فتجريبه الخيارات الأخرى التي تكاثرت جدا مُقامرة في حدّ ذاتها.
عزم أمره وأمسك القضيب بكلتا يديه واحتضنه والتف حوله ليجعل البناية قبلته وظهره لخارج البناية.
قام بالنزول ببطء شديد.
تجاوز أرضية ذلك الدور فربط ساقيه حول القضيب وأكمل نزوله.
عندما وصلت يديه لأرضية الدور اضطر لفك يديه واحدة بعد الأخرى ومُعاودة الإمساك به.
أكمل النزول ووصل لأرضية ذلك الدور بسلام.
التف حول العمود ونظر أمامه.
كان في قسم يحتل ربع مساحة الدور. يصل هذا الدور بالدور الذي يعلوه درج لا بد أنه فاته ويربطه بالدور الذي يسفله فتحة فيها سلم.
قام بنزول السلم ووجد دورا توجد في أرضيته ثمانية فتحات.
قام بالنظر إلى الفتحات لبضعة ثوانٍ ثم نظر إلى العمود في ركن الدور.
نزل مع أحدها الذي أدّت به لنهاية مسدودة في ركن تلك العمارة مُجددا.
هل فعلا يُريد تجريب بقية الاختيارات؟
كانت درجة الحرارة قد انخفضت إثر اختفاء الشمس وبقاءه في البرد يهدد وجوده في حدّ ذاته.
نظر إلى العمود وفكّر في النزول عن طريقه مُجددا.
عزم أمره. قام بمُحاولة فعل نفس ما قام به من قبل.
عندما اضطر لفك يده اليمنى عن العمود ليمسك به من أسفل أرضية ذلك الدور لم يستطع الامساك به جيدا إثر برودة القضيب وتخدُّر يديه فاختل توازنه.
عندما اضطر لفك يده اليمنى عن العمود ليمسك به من أسفل أرضية ذلك الدور لم يستطع الامساك به جيدا إثر برودة القضيب وتخدُّر يديه فاختل توازنه.
لم تستطع يده اليسرى لوحدها موازنة وزن جسده العلوي وخانته عضلات ساقه أيضا إثر توتره ولكنه لم يزل رابطا ساقيه حول العمود.
سحبته الجاذبية فهوى موازيا العمود نظرا لالتفاف فخذيه وساقيه حوله.
اصدمت ساقيه بأرضية ذلك الدور ولم يتحمل الصدمة فانفكت العقدة المكونة من ساقيه وفخذيه من حول العمود ولم تستطع يده اليمنى تحمل وزنه فهوى.
فقد وعيه قبل أن يصل إلى الأرض.
*****
المشهد يبدو مهزوزا.
"ما كل هذا الضوء؟" سأل نفسه
رفع يديه ليغطي عينيه
اكتشف أن يده كانت موصلة بمغذي وجهاز لمراقبة نشاطه الحيوي
رأسه محلوقة وعليها عدد من الأسلاك الموصلة بالأجهزة
يبدو أنه كان نائما على سرير مستشفيات مرتفع الظهر بعض الشيء مرتديا لباس المرضى في المستشفيات وهو ملتحف بغطاء أبيض خفيف.
بدأ يتأقلم مع حدة الضوء إثر ضيق بؤبؤي عينيه وحدهما من كمية الضوء المستوعبة.
يشعر بالإنهاك والتعب.
سأل نفسه "أينَ أنا؟ .. وماذا أفعلُ هنا؟"
يبدو سؤاله مألوفا, وليست ألفته للسؤال ثمة الألفة الحسنة التي يُشتاق إليها.
أدار عينيه في الجوار ورأى ظهر رجل واقف طويل الشعر يرتدي معطفا أبيضا يبدو في أواخر الأربعينات من عمره.
يقف في آخر الغرفة التي كان فيها وهو يتأمل أوراقا مُعلقة على الجدار.
تنبه الرجل لاستيقاظه فاستدار وخطا له بضعة خطوات.
يرتدي نظارات غليظة الإطار وتعتلي وجهه لحية كثة.
قال الرجل بلكنة روتينية: صباح الخير.
لم يكن في مزاج ليرد التحية فلديه الكثير من الأسئلة التي تختلج في أعماقه.
قال: أين أنا؟
لم يبدُ أن الرجل كان ليحتفظ بأية معلومات لنفسه إذا بادر بالإجابة وكأنما لم يهمه أنه تجاهل تحيته: أنت في قبو جامعة المدينة في أحد مختبرات قسم علم الأعصاب
لم تكن تلك الإجابة قد شفت غليله فربما قد زادت حصيلة أسئلته
سأل مجددا: ماذا أفعل هنا؟
أكمل الرجل وقد صرف انتباهه للأجهزة التي تعطي معلومات عن نشاطه الحيوي: أنت جزء من تجربة مهتمة بتحديد مدى القدرات البشرية من الناحيتين الجسدية والعقلية وربطهما بمعطيات عن تكوين الدماغ ونشاط أقسامه المختلفة.
صدمته الإجابة.
لبث بضعة ثوان يُحاول تحليل إجابته.
أحس الرجل بعدم قدرته على معالجة المعلومة ووضعها في سياق التجربة التي مر بها للتو فأكمل الرجلُ قائلا: ماذا تتذكر بالضبط؟
أجاب قائلا: استيقظت على سقف بناء حديدي في منتصف اللامكان وكان لا بد لي من النزول بطريقة أو أخرى
توقف عن الكلام لثانيتين وكأنما رجّح أن تجربته كانت حلما.
سأله الرجل: ثم ماذا؟
أغلق عينيه وضع سبابته وإبهام أعلى خشمه وعقد حاجبيه مُحاولا استحضار التجربة المؤلمة: حاولت النزول بشتى الطرق حتى وصلت لمنتصف البناء تقريبا ولكنني فشلت في النهاية وسقطت من جانب البناء.
أخذ الرجل يكتب في الملف الذي كان يُمسك به وكأنما لم يعد يهمه تفسير الموقف له.
لم تُعجبه طريقة الرجل في التعامل معه فزادت حدة نبرته وهو يقول: ما هي هذه التجربة بالتحديد؟؟!؟!
أجاب الرجل ببرود مريع وهو لا يزال يكتب: التجربة التي مررت بها لم تحدث في الحقيقة, كانت -بمصطلحات عاميّة - بمثابة الحلم بالنسبة لك, قمنا بتطوير نظام يُمكننا من تطبيق سيناريوات افتراضية مُصممة على البشر ومعرفة نتائج ردات الفعل التقريبية المُقاربة للواقع من دون خوض التجربة فعليا, يمكننا هذا النظام من القيام بتجارب مثل التي نقوم بها الآن.
رفع الرجل عينيه إليه وأكمل قائلا: ببساطة, الهدف من التجربة التي مررت بها كانت هو معرفة هل يستطيع شخص بقدراتك العقلية والجسدية حلّ المتاهة والنزول من أعلى لأسفل العمارة تحت الظروف المُحددة
استشاط غضبا وقال: لحظة! هل تقصد أنك أنت من وضعني على أعلى ذلك البناء الحديدي؟؟؟!؟!؟
حاول الاعتدال والنهوض ولكنه تنبه لأن وسطه ورجليه مثبتين بإحكام في السرير بأحزمة رابطة.
صرخ بضعة مرات وقام بفك الأسلاك من على رأسه وهمّ بفك الأسلاك عن يديه ولكن الرجل قال له بنفس اللكنة الباردة: إيّاك أن تفك الأسلاك من على يديك فهي تحتوي على مغذي ومواد من شأنها أن تبقي حالتك مستقرة
قرر أن من المجازفة عدم تصديق هذا الرجل فحاول التحكم بأعصابه.
عندما هدأت صرخاته قال الرجل بهدوء: التجربة مهتمة بقدرتك على تحليل الموقف وتعاملك معه, السيّارة كانت موجودة لإعطائك دافع للنزول, لو أنك وصلت لها لانتهت التجربة ولم تستطع أن تكملها, المتاهة كان الهدف منها معرفة ردة فعل عقلك وقدرته على التحليل وسرعتك في التعامل مع الموقف في ظل الظروف المحيطة.
صرخ بصوت مُحتقن: من أعطاك الحق بإرغامي على خوض تجربتكم اللعينة هذه أيها الوغد؟!
خطا الرجل خطوتين للخلف والتقط ورقة من على مكتب قريب عليها توقيعه وأشاح بها في وجهه قائلا: أنت بنفسك تطوعت للتجربة مُقابل مبلغ مادي, استجبت لإعلانٍ وضعناه في الجريدة على ما أعتقد وقد أحطناك علما بما سيحدث لك خلال التجربة وعلى ظل ذلك قمت بالموافقة والتوقيع. إن لم تخني الذاكرة فقد قلت أنك تحتاج المقابل المادي لسد بعض نفقاتك التي لم تعد تقدر على سدها مؤخرا, الأحزمة المثبتة هي مُجرد إجراء احتياطي في حال حصلت لك ردّة فعل مثل هذه.
أمسك بالورقة وقرأها على عجل ورأى توقيعه الذي خان به نفسه ثم أراح ساعده وانتظره الرجل حتى فرغ من تفحص الورقة ثم قال: لا توجد مُخاطرة عالية بحياتك فنتائج التجربة تُعامل مثل الحلم ونسبة حصول نتائج عكسية لك لا تتجاوز الثلاثة بالمئة كنسبة حصول أي خطأ خلال أية عملية طبية بسيطة, ألم تُلاحظ أنك سقطت من على ارتفاع في تجربتك الأخيرة ولم يمسك أية أذى باستثناء انفعالك الغير مُبرّر؟
أخذ الرجل الورقة من يده وأعادها على المكتب الذي أخذها منه وأكمل حديثه بهدوء مستفز: لا نستطيع خلال التجربة مُشاهدة ما تُشاهده ولكن من خلال الحساسات على رأسك نستطيع مُشاهدة نشاطك الدماغي ومن خلال المناطق النشطة في المخ نستطيع تنبؤ نتائج التجربة التي يفترض أنها مُطابقة للواقع ثم نقوم بتأكيد افتراضاتنا من خلال التأكيد مع العينة لفظيا.
سأله بيأس وكأنما كان يُحاول إيجاد ثغرات في منطقه وهز موقف الرجل: كيف تعرف أن ردات الفعل مُطابقة لما قد يحصل على أرض الواقع؟
أجابه الرجل مُباشرة وكأنما كان ينتظر سؤاله: تم اختبار النظام مرارا وتكرارا على عينات أخرى في نطاق وظروف أبسط من التي مررت بها والنتائج كانت مُرضية جدا ومن خلال التقدير الاستقرائي نستطيع توسيع نطاق النظام نستطيع التعميم والتحصل على نتائج من دون مُخاطرة فعلية بحياة العينات والقيام بدراسة مثل التي نقوم بها حاليا.
ثار مُجددا وقال: لا تدعني 'عينة' يا أيها الحقير! أهذا كل ما أمثله لك؟ مجرد عينة؟ مجرد فأر تجارب؟
أجابه الرجل فاردا سبابته في وجهه: 'عينة' تم توضيح جميع المخاطر لها ووافقت طواعية على خوض التجربة التي ليس لها مخاطر فعلية على حياتها, نعم.
كان التسلسل في منطق الرجل واضحا ولم يجد كلاما يرد به عليه فغدا يلهث لبضعة ثوانٍ.
أكمل الرجل كلامه قائلا ببروده الغريب: تمّ إعداد التجربة بحيث لا تعلم خلالها السياق الذي تعيشه فيها فكما لاحظت كُنتَ فاقدا الذاكرة خلال التجربة ولم تستحضر الذكرى التي جعلتك تخوض التجربة فلا تكون لديك مُعطيات مسبقة خلال التجربة فتقرر النزول ولا تبقى أعلى البناء لعلمك أن ليس لنزولك جدوى فعلية, بعد استيقاظك تتذكر التجربة ولا تتذكر ما قد حصل قبلها ولكن مع مرور الوقت تعود لك ذاكرتك تدريجيا.
انتظره الرجل أن يقول شيئا ولكنه لم يقل فأكمل قائلا: التجربة التي خضتها تُمثّل في الدراسة كنقطة على رسم بياني يتم من خلالها رسم مُنحنى يوضّح العلاقة بين القدرات الجسمية والعقلية وقابليتهما للتبلور كنجاح في حل المتاهة الموضوعة على أرض الواقع في ظل مُتغير الظروف, أنت تمثل مستوى معين من القدرات العقلية والجسدية والمستويات الأخرى ممثلة بعينات أخرى وهكذا نتمكن من استكمال رسم المنحنى الذي نستطيع استقراء العلاقة من خلاله مع العديد مثل المعطيات من نشاط المخ, حجم أجزاء مُعينة من الدماغ وغيرها.
تعاظَمَ تجربته على مسألة تمثيلها كنقطة على رسم بياني فقال للرجل: نقطة؟ أهذا كل ما تحصلت عليه من هذه التجربة اللعينة اللعينة؟؟!؟
أكمل الرجل متجاهلا انفعاله مُجددا: حتى الآن لدينا ١١ نقطة من ١١ تجربة, ١٠ منها ناجحة حيث استطعت النزول بسلام وتجربة واحدة فاشلة التي خضتها للتو...
قاطعه قائلا: لحظة, هل تقصد أنني ....
قاطعه الرجل مُجاوبا سؤاله المُتوقّع: نعم, خضت ذات التجربة إحدى عشرة مرة في ظل مُتَغَيِّرِ الظروف. في أولى تجاربك كانت المتغيرات مُعدة للوضع الأقل صعوبة ١) كان الجو معتدلا ٢) كنت مرتديا ملابسا ٣) كانت العمارة أقصر ٤) لم تكن هناك سلالم على جانب العمارة ٥) لم تكن جوانب العمارة مفتوحة فاحتمالية سقوطك كانت منعدمة واستطعت حل المتاهة ببساطة والوصول للسيارة المركونة أسفل البناء. بعد تعديك لكل مستوى تم تعديل قيمة إحدى المتغيرات زائدا من صعوبة حل المتاهة.
بلغ الذهول منه مبلغه ولاحظ ذلك الرجل الذي أردف قائلا: نعم, هذه هي المرة الحادية عشرة التي أشرح لك الموضوع كاملا, نجحت في كل التجارب باستثناء الأخيرة وردّة فعلك كانت أقل حدة بعد استيقاظك في كل مرة عدا هذه المرة, للسبب الواضح وهو فشلك وصدمة الوقوع من جانب البناء.
قال بعد لحظة تفكير: لحظة إن كان هناك خمسة مستويات صعوبة فلم فمن المفترض أن المرة الأخيرة كانت التجربة رقم ٦, هل معنى ذلك أنني...
قاطعه الرجل الذي لم يبدُ أنه يعرف طريقة للحوار غير مقاطعته إياه: يتم تكرار كل تجربة لتأكيد النتائج, في حال اختلاف نتيجة التجربتين يتم اللجوء لتجربة ثالثة تَبُتُّ في المسألة وتُحدد اذا ما كان يُعتبر قادرا على تجاوز مستوى الصعوبة أم لا, أحتاج الآن لأن أُعيد توصيل الأسلاك لرأسك حتى نتمكن من تكرار التجربة وتأكيد فشلك.
انتابه الهلع فهو لا يظنّ أنه قادر على تكرار التجربة وغدا يصرخ وينتفض مُحاولا التخلص من الرباط المُحكم الذي يكبله بالسرير وبقي الرجل الذي تراجع خطوتين هادئا وقال وهو متكئ على إحدى الأجهزة: الساعة الثانية صباحا ولن يسمعك أحد, وحتى إن سمعوك فليس ثمة شيء يستطيعون القيام به وغالبا ما سيساعدونني على القيام بعملي, إن لم تدعني أقوم بتوصيل الأسلاك وبدأ التجربة فسأضطر لتخديرك.
أخذ يصرخ ويسب ويلعن وقال للرجل: سأنال منك أيها الوضيع, لن أدعك تقوم بتكرار ما فعلته لي.
أحس بالنعاس فجأة وبثقل جفنيه ولم يعد يستطيع تحريك يديه على مسمع صوت الرجل الذي كان يتحكم بالجهاز الذي كان متكئا عليه: المغذى الموصل بيدك يحتوي على مُخدر أيضا, كُنتَ لتجعل الموضوع أسهل على كلينا لو أنك تركتني أعيد توصيل الأسلاك.
زاد ثقل جفنيه وغلبه النعاس ولم يتمكن من سبّ ولعن الرجل إلا في سره.
تخدر بالكلية.
أعاد الرجل توصيل الأسلاك بهدوء غريب.
جلس الرجل خلف مكتبه في الجهة الأخرى من الغرفة والتقط شطيرة وأخذ قضمة منها ثم أخذ يضغط أزرار لوحة مفاتيح جهاز الحاسب المُتحكم.
ساد الهدوء باستثناء صوت مضغ الرجل للشطيرة وصوت كتابته على لوحة المفاتيح وصوت طنين الأجهزة المُتقطّع.
*****
فَتَح شخص ما عينيه بجفنٍ ثقيل مستيقظا من النوم.
سأل نفسه "أين أنا .. وماذا أفعلُ هنا؟"
أدار عينيه في الجوار ورأى ظهر رجل واقف طويل الشعر يرتدي معطفا أبيضا يبدو في أواخر الأربعينات من عمره.
يقف في آخر الغرفة التي كان فيها وهو يتأمل أوراقا مُعلقة على الجدار.
تنبه الرجل لاستيقاظه فاستدار وخطا له بضعة خطوات.
يرتدي نظارات غليظة الإطار وتعتلي وجهه لحية كثة.
قال الرجل بلكنة روتينية: صباح الخير.
لم يكن في مزاج ليرد التحية فلديه الكثير من الأسئلة التي تختلج في أعماقه.
قال: أين أنا؟
لم يبدُ أن الرجل كان ليحتفظ بأية معلومات لنفسه إذا بادر بالإجابة وكأنما لم يهمه أنه تجاهل تحيته: أنت في قبو جامعة المدينة في أحد مختبرات قسم علم الأعصاب
لم تكن تلك الإجابة قد شفت غليله فربما قد زادت حصيلة أسئلته
سأل مجددا: ماذا أفعل هنا؟
أكمل الرجل وقد صرف انتباهه للأجهزة التي تعطي معلومات عن نشاطه الحيوي: أنت جزء من تجربة مهتمة بتحديد مدى القدرات البشرية من الناحيتين الجسدية والعقلية وربطهما بمعطيات عن تكوين الدماغ ونشاط أقسامه المختلفة.
صدمته الإجابة.
لبث بضعة ثوان يُحاول تحليل إجابته.
أحس الرجل بعدم قدرته على معالجة المعلومة ووضعها في سياق التجربة التي مر بها للتو فأكمل الرجلُ قائلا: ماذا تتذكر بالضبط؟
أجاب قائلا: استيقظت على سقف بناء حديدي في منتصف اللامكان وكان لا بد لي من النزول بطريقة أو أخرى
توقف عن الكلام لثانيتين وكأنما رجّح أن تجربته كانت حلما.
سأله الرجل: ثم ماذا؟
أغلق عينيه وضع سبابته وإبهام أعلى خشمه وعقد حاجبيه مُحاولا استحضار التجربة المؤلمة: حاولت النزول بشتى الطرق حتى وصلت لمنتصف البناء تقريبا ولكنني فشلت في النهاية وسقطت من جانب البناء.
أخذ الرجل يكتب في الملف الذي كان يُمسك به وكأنما لم يعد يهمه تفسير الموقف له.
لم تُعجبه طريقة الرجل في التعامل معه فزادت حدة نبرته وهو يقول: ما هي هذه التجربة بالتحديد؟؟!؟!
أجاب الرجل ببرود مريع وهو لا يزال يكتب: التجربة التي مررت بها لم تحدث في الحقيقة, كانت -بمصطلحات عاميّة - بمثابة الحلم بالنسبة لك, قمنا بتطوير نظام يُمكننا من تطبيق سيناريوات افتراضية مُصممة على البشر ومعرفة نتائج ردات الفعل التقريبية المُقاربة للواقع من دون خوض التجربة فعليا, يمكننا هذا النظام من القيام بتجارب مثل التي نقوم بها الآن.
رفع الرجل عينيه إليه وأكمل قائلا: ببساطة, الهدف من التجربة التي مررت بها كانت هو معرفة هل يستطيع شخص بقدراتك العقلية والجسدية حلّ المتاهة والنزول من أعلى لأسفل العمارة تحت الظروف المُحددة
استشاط غضبا وقال: لحظة! هل تقصد أنك أنت من وضعني على أعلى ذلك البناء الحديدي؟؟؟!؟!؟
حاول الاعتدال والنهوض ولكنه تنبه لأن وسطه ورجليه مثبتين بإحكام في السرير بأحزمة رابطة.
صرخ بضعة مرات وقام بفك الأسلاك من على رأسه وهمّ بفك الأسلاك عن يديه ولكن الرجل قال له بنفس اللكنة الباردة: إيّاك أن تفك الأسلاك من على يديك فهي تحتوي على مغذي ومواد من شأنها أن تبقي حالتك مستقرة
قرر أن من المجازفة عدم تصديق هذا الرجل فحاول التحكم بأعصابه.
عندما هدأت صرخاته قال الرجل بهدوء: التجربة مهتمة بقدرتك على تحليل الموقف وتعاملك معه, السيّارة كانت موجودة لإعطائك دافع للنزول, لو أنك وصلت لها لانتهت التجربة ولم تستطع أن تكملها, المتاهة كان الهدف منها معرفة ردة فعل عقلك وقدرته على التحليل وسرعتك في التعامل مع الموقف في ظل الظروف المحيطة.
صرخ بصوت مُحتقن: من أعطاك الحق بإرغامي على خوض تجربتكم اللعينة هذه أيها الوغد؟!
خطا الرجل خطوتين للخلف والتقط ورقة من على مكتب قريب عليها توقيعه وأشاح بها في وجهه قائلا: أنت بنفسك تطوعت للتجربة مُقابل مبلغ مادي, استجبت لإعلانٍ وضعناه في الجريدة على ما أعتقد وقد أحطناك علما بما سيحدث لك خلال التجربة وعلى ظل ذلك قمت بالموافقة والتوقيع. إن لم تخني الذاكرة فقد قلت أنك تحتاج المقابل المادي لسد بعض نفقاتك التي لم تعد تقدر على سدها مؤخرا, الأحزمة المثبتة هي مُجرد إجراء احتياطي في حال حصلت لك ردّة فعل مثل هذه.
أمسك بالورقة وقرأها على عجل ورأى توقيعه الذي خان به نفسه ثم أراح ساعده وانتظره الرجل حتى فرغ من تفحص الورقة ثم قال: لا توجد مُخاطرة عالية بحياتك فنتائج التجربة تُعامل مثل الحلم ونسبة حصول نتائج عكسية لك لا تتجاوز الثلاثة بالمئة كنسبة حصول أي خطأ خلال أية عملية طبية بسيطة, ألم تُلاحظ أنك سقطت من على ارتفاع في تجربتك الأخيرة ولم يمسك أية أذى باستثناء انفعالك الغير مُبرّر؟
أخذ الرجل الورقة من يده وأعادها على المكتب الذي أخذها منه وأكمل حديثه بهدوء مستفز: لا نستطيع خلال التجربة مُشاهدة ما تُشاهده ولكن من خلال الحساسات على رأسك نستطيع مُشاهدة نشاطك الدماغي ومن خلال المناطق النشطة في المخ نستطيع تنبؤ نتائج التجربة التي يفترض أنها مُطابقة للواقع ثم نقوم بتأكيد افتراضاتنا من خلال التأكيد مع العينة لفظيا.
سأله بيأس وكأنما كان يُحاول إيجاد ثغرات في منطقه وهز موقف الرجل: كيف تعرف أن ردات الفعل مُطابقة لما قد يحصل على أرض الواقع؟
أجابه الرجل مُباشرة وكأنما كان ينتظر سؤاله: تم اختبار النظام مرارا وتكرارا على عينات أخرى في نطاق وظروف أبسط من التي مررت بها والنتائج كانت مُرضية جدا ومن خلال التقدير الاستقرائي نستطيع توسيع نطاق النظام نستطيع التعميم والتحصل على نتائج من دون مُخاطرة فعلية بحياة العينات والقيام بدراسة مثل التي نقوم بها حاليا.
ثار مُجددا وقال: لا تدعني 'عينة' يا أيها الحقير! أهذا كل ما أمثله لك؟ مجرد عينة؟ مجرد فأر تجارب؟
أجابه الرجل فاردا سبابته في وجهه: 'عينة' تم توضيح جميع المخاطر لها ووافقت طواعية على خوض التجربة التي ليس لها مخاطر فعلية على حياتها, نعم.
كان التسلسل في منطق الرجل واضحا ولم يجد كلاما يرد به عليه فغدا يلهث لبضعة ثوانٍ.
أكمل الرجل كلامه قائلا ببروده الغريب: تمّ إعداد التجربة بحيث لا تعلم خلالها السياق الذي تعيشه فيها فكما لاحظت كُنتَ فاقدا الذاكرة خلال التجربة ولم تستحضر الذكرى التي جعلتك تخوض التجربة فلا تكون لديك مُعطيات مسبقة خلال التجربة فتقرر النزول ولا تبقى أعلى البناء لعلمك أن ليس لنزولك جدوى فعلية, بعد استيقاظك تتذكر التجربة ولا تتذكر ما قد حصل قبلها ولكن مع مرور الوقت تعود لك ذاكرتك تدريجيا.
انتظره الرجل أن يقول شيئا ولكنه لم يقل فأكمل قائلا: التجربة التي خضتها تُمثّل في الدراسة كنقطة على رسم بياني يتم من خلالها رسم مُنحنى يوضّح العلاقة بين القدرات الجسمية والعقلية وقابليتهما للتبلور كنجاح في حل المتاهة الموضوعة على أرض الواقع في ظل مُتغير الظروف, أنت تمثل مستوى معين من القدرات العقلية والجسدية والمستويات الأخرى ممثلة بعينات أخرى وهكذا نتمكن من استكمال رسم المنحنى الذي نستطيع استقراء العلاقة من خلاله مع العديد مثل المعطيات من نشاط المخ, حجم أجزاء مُعينة من الدماغ وغيرها.
تعاظَمَ تجربته على مسألة تمثيلها كنقطة على رسم بياني فقال للرجل: نقطة؟ أهذا كل ما تحصلت عليه من هذه التجربة اللعينة اللعينة؟؟!؟
أكمل الرجل متجاهلا انفعاله مُجددا: حتى الآن لدينا ١١ نقطة من ١١ تجربة, ١٠ منها ناجحة حيث استطعت النزول بسلام وتجربة واحدة فاشلة التي خضتها للتو...
قاطعه قائلا: لحظة, هل تقصد أنني ....
قاطعه الرجل مُجاوبا سؤاله المُتوقّع: نعم, خضت ذات التجربة إحدى عشرة مرة في ظل مُتَغَيِّرِ الظروف. في أولى تجاربك كانت المتغيرات مُعدة للوضع الأقل صعوبة ١) كان الجو معتدلا ٢) كنت مرتديا ملابسا ٣) كانت العمارة أقصر ٤) لم تكن هناك سلالم على جانب العمارة ٥) لم تكن جوانب العمارة مفتوحة فاحتمالية سقوطك كانت منعدمة واستطعت حل المتاهة ببساطة والوصول للسيارة المركونة أسفل البناء. بعد تعديك لكل مستوى تم تعديل قيمة إحدى المتغيرات زائدا من صعوبة حل المتاهة.
بلغ الذهول منه مبلغه ولاحظ ذلك الرجل الذي أردف قائلا: نعم, هذه هي المرة الحادية عشرة التي أشرح لك الموضوع كاملا, نجحت في كل التجارب باستثناء الأخيرة وردّة فعلك كانت أقل حدة بعد استيقاظك في كل مرة عدا هذه المرة, للسبب الواضح وهو فشلك وصدمة الوقوع من جانب البناء.
قال بعد لحظة تفكير: لحظة إن كان هناك خمسة مستويات صعوبة فلم فمن المفترض أن المرة الأخيرة كانت التجربة رقم ٦, هل معنى ذلك أنني...
قاطعه الرجل الذي لم يبدُ أنه يعرف طريقة للحوار غير مقاطعته إياه: يتم تكرار كل تجربة لتأكيد النتائج, في حال اختلاف نتيجة التجربتين يتم اللجوء لتجربة ثالثة تَبُتُّ في المسألة وتُحدد اذا ما كان يُعتبر قادرا على تجاوز مستوى الصعوبة أم لا, أحتاج الآن لأن أُعيد توصيل الأسلاك لرأسك حتى نتمكن من تكرار التجربة وتأكيد فشلك.
انتابه الهلع فهو لا يظنّ أنه قادر على تكرار التجربة وغدا يصرخ وينتفض مُحاولا التخلص من الرباط المُحكم الذي يكبله بالسرير وبقي الرجل الذي تراجع خطوتين هادئا وقال وهو متكئ على إحدى الأجهزة: الساعة الثانية صباحا ولن يسمعك أحد, وحتى إن سمعوك فليس ثمة شيء يستطيعون القيام به وغالبا ما سيساعدونني على القيام بعملي, إن لم تدعني أقوم بتوصيل الأسلاك وبدأ التجربة فسأضطر لتخديرك.
أخذ يصرخ ويسب ويلعن وقال للرجل: سأنال منك أيها الوضيع, لن أدعك تقوم بتكرار ما فعلته لي.
أحس بالنعاس فجأة وبثقل جفنيه ولم يعد يستطيع تحريك يديه على مسمع صوت الرجل الذي كان يتحكم بالجهاز الذي كان متكئا عليه: المغذى الموصل بيدك يحتوي على مُخدر أيضا, كُنتَ لتجعل الموضوع أسهل على كلينا لو أنك تركتني أعيد توصيل الأسلاك.
زاد ثقل جفنيه وغلبه النعاس ولم يتمكن من سبّ ولعن الرجل إلا في سره.
تخدر بالكلية.
أعاد الرجل توصيل الأسلاك بهدوء غريب.
جلس الرجل خلف مكتبه في الجهة الأخرى من الغرفة والتقط شطيرة وأخذ قضمة منها ثم أخذ يضغط أزرار لوحة مفاتيح جهاز الحاسب المُتحكم.
ساد الهدوء باستثناء صوت مضغ الرجل للشطيرة وصوت كتابته على لوحة المفاتيح وصوت طنين الأجهزة المُتقطّع.
*****
فَتَح شخص ما عينيه بجفنٍ ثقيل مستيقظا من النوم.
سأل نفسه "أين أنا .. وماذا أفعلُ هنا؟"
استمتعت بوقتي هنا .. شكرا :)
ردحذفشكرا لك لقرائتك
حذفحسيت كاني اشوف فلم اكشن... عجبني تسلسل القصه و عجبتني النهايه اكثر
ردحذفشكرا جزيلا أسعدني تعليقك
حذف